الثلاثاء، 21 أبريل 2015

حرّاس الأرض في سوق واقف




حيوية السوق الشعبي تضج في السياح وكميراتهم المعلقة على صدورهم كدلالة ترحال، والباعه المحليون يقتنصون السذج ليبيعوهم بضع أشياء لا يريدونها ولكنهم سيشترونها على كل حال. تعلو أصوات المناديين، كلن منهم يمتدح بضاعته كشاعر مغرم بحسناء استعصت عليه، وليس أمام الزائرين إلا الخضوع أمام هكذا حُسنُ وإغراء. في السوق الذي جُدد بالكامل حتى يَعيش لمدة أطول لم يبقى من أشيائه العتيقة إلا لافتة أول مطعم أفتتح في البلاد "مطعم بسم الله"، ولوحة لفتاة جميلة معُلقة على حائط المطعم الخارجي للزينة.
هُناك بالتحديد، تقبع حكاية مؤطرة بأربعة آسوار كقفص. لا يعرف عنها أحد. الفتاة في اللوحة تنظر للعالم بعينين ثابتتين. ترى الجموع يقفون أمامها، يلتقطون صور المطعم وصور لها. وهي لا تملك إلا أن تراهم في أعينهم عل أحدهم يشعر بها. تحاول الهروب، لكن طيفها المُحلق يرتطم بزوايا البرواز ولا تقدر. شيء ما يقف في طريقها إلى ما بعد هذه الأرض، بعد كل هذا الوقت من الانتظار لا تهتم إن كان مصيرها جنة أو نار، تريد فقط أن تغادر. يقف نادل المطعم أمام اللوحة، يرش أطرافها ببعض من الماء، ويبدأ المسح. هذا الرجل الآسيوي هو متعتها الوحيدة. تبصق عليه! فيظن أن بعضًا من سائل التنظيف أرتد عليه. يمسح وجهه دون أن يشعر بالروح التي تُطالعه. يواصل المسح ثم يدخل المطعم مرة أخرى. تزفر من الملل فتنبعث رياح تلف السوق. يُحكم مدير المطعم اغلاق النوافذ خوفا من الغبار فتتكيء على كفيها تتنظر السياح أو أحد سينظر إليها ويشعر بها. يجب أن تخرج. يجب أن تحل مُعضلة هذا السجن المؤبد، أتكون في النار وهي لا تعلم؟ أهكذا يُعاقب الله المُذنبين من عباده؟ أن يقبعوا في الأرض ليشهدوا حياة الأخرين حتى يموتوا؟ 
هذه اللوحة بيتها حتى يوم القيامة، أو حتى تعلم كيفية كسر اللعنة التي الصقتها بالجدار. يمر المرشد السياحي، يُشير على لوحة المطعم القديمة ويقول بزهو:"هذ أول مطعم أُفتتح في هذه البلاد" ثم يقترب منها "وهذه لوحة كانت بداخل المطعم تم الإعتناء بها وعرضها حيث أنها من تاريخنا."  
تقترب سيدة من اللوحة، تخلع نظارتها وتنظر بإمعان كأنها ترى روح الصبية المعلقة، تتوسع عينا الصبية، تتسائل وشيء من أمل كاذب يتسلل إليها:"هل تراني؟ تشعر بي؟" تتلمس السيدة اللوحة بيديها، تمسك الفتاة علها تتعلق بشيء يخرجها، تخترق يديها يد السيدة كالخيال ولا تقبض على شيء. أعلى مراتب الخيبة أن يكون الخلاص بُعَد بسطة يد منك ولا تصل إليه. ترتعش يد السيدة  وتغادر.

تعود لوحدتها، مُستاءة لأنها دون ماضي يسليها أو إسم تُنادي نفسها به إذا مَلت. هي لا تتذكر كيف ماتت، في هذه المرحلة لا يُهم صدقًا. الفقر فقر الذكريات، هي السلوان ساعة الحاجة، والأُنس في الوحشة. 

هي لا تعرف بعد لكنني أعرف. تقول جدتي عن حكايتها: "البنت اللي ما تطيع أهلها، تضيع" ولأن الفتاة طاعت قلبها قبل أهلها ضاعت. صارت روح تائهة تفكر كيف أصبحت شبحًا، تخترق الجموع في السوق القديم لا تلوي على أحد. تطأ قدميها لوحة ممدة على الأرض، تهوي في الإطار. حاولت النهوض والخروج لكن رجال حملوها مع اللوحة حتى عُلقت في داخل المطعم. ومنذ ذلك اليوم لم تستطع مُغادرة الإطار. 

"الجن حراس الأرض. في الماضي كانت تختبىء في الرياض. وحين تضوي الماشية لتقتات من الزرع، تطردها الجن. واليوم، تحرس أماكن جديدة لا نعرفها، من الماشية والبشر على حد سواء. لكنها، مثل الروح، ضعيفة عند كلام الله" تقول جدتي. وسجان روح الفتاة دُعاء. في كل مرة تحاول الخروج يُعيدها الدعاء إلى اللوحة كطريدة. "بسم الله". اسم المطعم العتيق الذي يردها للحبس في كل مرة.

تمط الفتاة شفتيها حين يجن الليل ويغادر الناس. يخرج النادل، يُغلق المطعم، ينظر إلى الفتاة المُعلقة مطولا ثم يبصق تحتها. تدعه يغادر دون عقاب فغدًا ستردها له. 

تميل رقبتها للشمال قليلا، تراقب ظهره المغادر نحو الحياة، وعينيها تشي بشيء من الموت. كل الحكايا عندها، تعرف حياة الناس في السوق وخيباتهم. تفهم النظرات والعبرات من مكانها حيث تترقب وتراقب. وإن لم يُسمع لها صوت، أصغ السمع وأشعر، هذه الرياح التي عبرت خلفك فجأة وانتفض جسدك منها، زفرة ملل تعني أنها تتربص بك، تحرس الأرض منك.



هناك تعليق واحد: